رحابة الإنسانيّة والإيمان
![]() |
صورة الكتاب، دار الشروق - القاهرة، الطبعة الأولى 2012. |
رحابة الإنسانية والإيمان
بين إنسانيّة الإنسان وماديّة
الأشياء يأخذنا د عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في هذا الكتاب إلى خِضمّ معركة
الفِكر الكونيّة، فاحصًا ومناقشًا وناقدًا أبرز الرؤى التي اصطفّت في كلا طرفي المعركة:
1. الطرف المتمركز حول الإنسان؛ وهو الطرف
الذي يؤمن بتجاوز الإنسان وتعاليه على الحدود الطبيعية الماديّة.
2. والطرف المتمركز حول الطبيعة؛ وهو الطرف
الذي يؤمن بواحديّة النظام الطبيعي وهيمنته على كل الأشياء، لا سيّما الإنسان الذي
يصبح شيئًا ككل الأشياء داخل هذا النظام، بلا قيمةٍ فارقة، وبلا هدف وغاية ما
ورائيّة من وجوده.
في الباب الأول من الكتاب ينقل لنا المسيري
-رحمه الله- الصراع من داخل الفكر الغربي الذي ينقسم إلى الإنسانيّة الهيومانيّة التي
دافعت عن مركزيّة الإنسان متمثّلةً في رؤى فيكو وكانط، وفي نقد مدرسة فرانكفورت، وهذا
القسم ينزلق ويتهاوى ليصبح وجهًا آخر للقسم الثاني من الفكر الغربي؛ وهو قسم الداروينية
الاجتماعية والعدميّة، الذي يعكس لنا تعميم نظرية تشارلز داروين في تطور الكائنات
الحية لتصبح رؤية كلية للكون والحياة البشرية وتطور المجتمعات الإنسانية، ويكشف
لنا المسيري -رحمه الله- كيف تبرّر هذه الرؤية وجود العنصريّة الطبقيّة والمشروع
الاستعماري الغربي، ثم يشير إلى شوبنهاور ونيتشه اللذين يمثّلان العدميّة
والعقلانيّة الماديّة بهجومهما على الإنسان من خلال منطلقات فلسفيّة كالنسبيّة
المطلقة للقيم وموت الإله.
ولكن رغم تماهي الرؤية الهيومانيّة
بالرؤية الماديّة الطبيعيّة كان المسيري -رحمه الله- يبحث عن المشترك الفكري بين
الرؤية الهيومانيّة الغربيّة والرؤية الإنسانيّة الإسلاميّة للكون والأشياء، وعن
الحاجة والدافع الذي دعا إلى هذا التماثل والتشابه السطحي الذي لا يلبث بعد الفحص
والتجذير حتى يعود تضادًّا وتخالفًا بين الرؤيتين؛ لأن الرؤية الهيومانيّة الغربيّة
لم تستطع الفكاك تمامًا من الرؤية الماديّة العدميّة التي هيمنت على الفكر الغربي،
وقد جاء في الباب الثاني من الكتاب ما يؤكّد ذلك؛ إذ ينتقل بنا المسيري -رحمه
الله- إلى الرؤية الإنسانيّة الإسلاميّة التي تؤمن أن إنسانيّة الإنسان تتحقّق حين
يؤمن بوجود خالق قويّ متحكّم؛ أي بوجود الله.
وفي الفصل الأول من هذا الباب يتناول
المسيري النظام الفلسفي -لرئيس البوسنة السابق- علي عزت بيجوفيتش القائم على
الرؤية الإسلامية واعترافها بثنائية التفاعل والتكامل بين الروحي والمادي في
الإنسان، بين الروح والجسد؛ لأن "الإسلام يخاطب كل ما في الإنسان ويتقبّله"[1]، كما
أن الحياة من وجهة نظر الإسلام كما يقول بيجوفيتش "يحكمها عاملان متكاملان: أحدهما
الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة، والثاني الكمال الأخلاقي"[2]، وفي
سبيل توثيق هذه الرؤية تُستقصى تجلّيات تعامل الإسلام مع هذه الثنائيّة في مفهوم
الأمة وظاهرة دمج المسجد بالمدرسة في الثقافة الإسلامية وإلخ.
كما قد جاء الفصل الثاني بعنوان "روجيه
جارودي بين التوحيد وواحديّة السوق"؛ إذ يعبّر الفيلسوف الفرنسي عن رفض المركزية
الأوروبية، ويتحدّث "عن الإنسان باعتباره كيانًا مسؤولًا، صاحب إرادة حرّة، ولا
يمكن فهم سلوكه إلا في إطار شوقه إلى اللامتناهي"[3]، كما
قد طرح جارودي التساؤلات والأفكار التي تدافع عن الإنسان ضدّ المذاهب الفكريّة
التي تهمل تكوينه الخاص واستقلاله، ولا سيّما المذهب البنيوي "الذي أعطى
الأولوية للبنية مع إهمال الإنسان الفرد كوجود ثقافي واجتماعي مستقل"[4].
وقد أوصى المسيري -رحمه الله- تلاميذه
باستكمال هذا المشروع الفكري؛ من خلال تناول عدد من المفكّرين الإسلاميّين كمحمّد
إقبال ومالك بن نبي -رحمهما الله- وغيرهم من الذين كان لهم نتاج فكريّ معني بنقد الهيمنة
الفكرية الغربيّة وادّعاءاتها الوحشيّة، كما أنه معني بتوثيق وتحقيق الرؤية
الإسلاميّة للإنسان والمجتمع والكون والحياة بالحكمة والاستقامة الربّانية؛ لتكتمل باقي فصول هذا الكتاب الذي يُعدّ خلاصة رحلته الفكريّة ومشروعه الإنساني العظيم.
تعليقات
إرسال تعليق