أبو تمَّام وذاتيّة الوعي بالأشياء
![]() |
صورة تمثال أبي تمَّام في الموصل- العراق |
يمكننا إيجاز التحوُّل العميق في
مسار الشعرية العربية بين الشعر المحدث وما قبله في ملاحظة عامة؛ هي أن الشعر
المحدث هو نتاج رؤية الذات وتفاعلها مع الآخر الذي يمثّله هنا الإنسان والواقع المَعيش،
أما ما قبله فعلى العكس؛ إذ كان الشعر نتاج رؤية الجماعة وانعكاسًا للآخر في
الغالب، وهذا الفرق هو الذي أتاح للشعر المحدث مساحةً لا محدودة تجاه الغموض وكسر
المألوف والفرادة، كانت هذه المساحة تكاد تكون معدومة في الشعر ما قبل المحدث؛ إذ
كان مفروضًا عليه الالتزام بالواجب الاجتماعي والمحاكاة الواقعية، وهذا مما يفرض
الوضوح والقرب من المألوف والتشاركية في اللغة الشعرية.
إن الذات الشاعرة في العصر العباسي
تقدّم نفسها بأنها الوعي الجديد لمتغيّرات الحياة، والآخر هو قضية ومعاناة لهذه
الذات الواعية؛ فرؤية الشاعر في العصر العباسي تتفاعل مع الآخر بوصفه التجربة التي
تتعايش معها الذات وتسعى إلى تغييرها أو تفعيلها شعريًّا، وهذا يعني أن تكون الذات
في مركز التحكُّم والسيطرة داخل العمل الشعري، وهكذا يحقّق الشاعر وجوده الخاصّ
ومكانته، ولا ينفي هذا أن تتأثر الذات أو تتشكّل من خلال تفاعلها مع الآخر، لكن
هذا التأثير والتشكُّل داخل تحت وعيها وسيطرتها، ولا يؤدي إلى الانصياع للآخر
والنزوع إلى الجماعية فكرًا وشعرًا[1]،
كما كان غالبًا في ما قبل الشعر المحدث.
ويتمثّل ذلك في تجربة أبي تمّام
الشعرية؛ إذ كانت انعكاسًا لذاته، وتنطلق من هاجسه اللغوي الذي يسبغه على رؤيته
للعالم، فقصيدة أبي تمّام عالم جمالي لُغوي خاصّ؛ لأن أبا تمّام "يخلق في
اللغة حيوية مستقلة، وشعره يُحرِّك بدءًا من ذاته، من اكتفائه بذاته، ولا يحرِّك
بموضوعه أو بأي عنصر خارجي، إن فعل شعره يتوالد من طاقته اللغوية الخاصة"[2]،
وهذه الحيوية المستقلة هي ما بثّ الغموضَ والغرابة في شعره، فقد كان "العالم
يموت في دلالات العُرف والعادة والتقليد، فانبعث بشعره في دلالات جديدة، وهكذا
اتخذ العالم جسدًا آخر، وبُعدًا غير مألوف"[3].
لقد مثّل الانتقال من التعبير
الواقعي المطابق إلى التعبير الخيالي المجازي هاجس أبي تمّام؛ فالعالم حين يتّخذ
هذا الجسد الآخر تجري فيه روح الخيال والفكر؛ ولذلك هو محكومٌ بالنشاط والتجدُّد،
بالاغتراب المضادّ للإخلاق والرثاثة[4]؛
والخيال والفكر يستقيان من الإدراك الشعوري المتجدّد والخبرة الحياتية الخاصة
بالفرد، يقول أبو تمّام واصفًا المطر[5]:
مطرٌ
يذوب الصحوُ منه وبعده صحوٌ يكاد من
الغضارة يُمطِرُ
غيثانِ
فالأنواءُ غيثٌ ظاهرٌ لك وجهُهُ والصحوُ
غيثٌ مضمَرُ
وندًى
إذا ادّهنت به لِممُ الثرى خِلتَ السحابَ
أتاه وهو معذِّرُ
يتجاوز
هذا الوصف الرغبة في نقل الحالة الشعرية أو الموقف الشعري بتطابق بين الواقع
واللغة؛ فهذه هي رغبة التكرار والتقليد، ولكن هذا الوصف ينقل الحالة أو الموقف
بإضفاء الإدراك الشعوري النافذ والخبرة المكتسبة الخاصة، ثمَّ تسليط اللغة
المجازية على الواقع لتخلق عالمًا خياليًّا بِكرًا؛ يعكس لنا المطرَ في الصحو،
والصحوَ في المطر، والندى المتكثّف اللامع في الليل ليس سوى السحاب المتراكم في
النهار جاء معتذرًا للنبت على قلة هطوله، وليس هطوله بالقليل، ثم يمتدّ أفق
التخييل إلى تفاصيل أخرى لهذا الربيع، حتى نراها في صورة كبرى؛ هي خُلق الممدوح
أطلّ من خلال هذا الربيع الخيالي الغريب[6].
إننا حين نقرأ هذه اللغة لا تستحضر
ذاكرتنا تلك التراكمات الوصفية للمطر في الشعر القديم؛ إلا لندرك حجم المفارقة
والتباين بين المطر الواقعي المتشارك والمطر الفنّي الفذّ، وحين نتفاعل مع هذا
الشكل اللغوي (التضادّ بين المطر والصحو) لا نشعر أننا نقارن بينه وبين شكل آخر في
الشعرية القديمة أو في قصيدة أخرى، ولكن نتفاعل معه بشعور الاكتشاف والتفهُّم الذي
لا يتوقف؛ لأن هذا الشكل مُبتكر وحركيّ بقدر ما تحرّك معه ذهن المتلقي، وبقدر
الطاقة الخيالية والفكرية المبثوثة فيه من قِبل الشاعر، وكأن أبا تمّام "يبدأ
من كلمة أولى، قبل القصائد المتراكمة في التاريخ الشعري الذي سبقه "[7].
وكأن أبا تمّام يدرك الأشياء ويشعر
بها شعورًا أوليًّا قبل تحديدها في اللغة الاتصالية، ولأنه يدركها ويشعر بها كذلك
فلا بد من الإشارة والإلماح إلى ما تغفل عنه تلك التحديدات، إنه يجد السياق الشعري
فيما يتجاهله السياق الاتصالي، ويشير لذلك من خلال أشكال لغوية مستفزة للإدراك
والشعور الرتيب في سياق التواصل، فالمطر وضدّه الصحو: كلاهما غيثان؛ الأول ظاهر
والثاني مضمر، لكن السياق الاتصالي مقتصر على الظاهر في حدّ الغيث، أما السياق
الشعري فليس بالضرورة أن يكون كذلك؛ لأنهما متّحدان في الإدراك الخاصّ والشعور
الأوليّ عند أبي تمّام، وهو بذلك لا يريد أن "يردّنا إلى سرير الطبيعة، أو أن
يزيّن لنا جسدها، وإنما يريد أن يدفعنا لكي نرى أشياء الطبيعة في اندفاعها
وتفجرها، في بكارتها"[8].
إن أبا تمّام يدرك أن اللغة الشعرية
القديمة قد خضعت لظروف أدّت لتثبيت وتأطير سياقها الإبداعي؛ ولأنه يدرك ذلك فهو
يراهن على سياقٍ إبداعيّ جديد يمثّل روح الشعر كما يؤمن بها، وهذا السياق ينطلق من
مبدأ جوهري من مبادئ الشعر؛ وهو ألّا يتقارب ويتآلف ويتحّد مع السياق الاتصالي،
إنه يعي الفرق بين الوظيفة الشعرية والوظيفة الاتصالية في اللغة؛ ولذلك هو لا
يقدّم دلالةً منفردة أو معنى ثابتًا ومحددًا، ولكنه يقدّم دلالات ومعاني متحرّكة
وغير محدودة، تحقّق الحيوية المنشودة والتأثير المتجدّد بانزياحها وتجاوزها الذي
يفتح أفق التأويل؛ وهذا ما يؤدي إلى أن يُتّهم شعره بالغموض، فالغموض ينتج عن حالة
كسر أو تشويش للعلاقة بين الدالّ والمدلول، بيْد أن هذا الغموض هو جوهر الشعرية
كما يؤمن بها أبو تمّام، وتجربته فضلًا عن مواقفه الشهيرة تؤكّد ذلك.
ولا يقتصر السياق الإبداعي الجديد
عند أبي تمّام على الجانب الدلالي للألفاظ والأشكال اللغوية، بل إن الاهتمام
بالجانب الصوتي الإيقاعي واتحاده بالجانب الدلالي يُعدّ ملمحًا بارزًا وأساسيًّا
في شعريّته؛ إذ أن قيمة القافية الإيقاعية أخذت في شعر أبي تمّام طابع الحركة
والتوالد أيضًا، إذ لم تعد القافية تمثّل حاجزًا دلاليًّا بين البيت والآخر،
ولكنها تمثّل رابطة التناغم والاستدعاء الدلالي بينهما على نحو الاعتناء بالوحدة
العضوية في القصيدة؛ فلم تعد القافية الموعود المنتظر ولحظة التقاط النفس فحسب، بل
هي الوعد المتجدّد باستمرار أنفاس الحياة في جسد القصيدة، على نحو ما نرى في
الأبيات السابقة؛ إذ مثّلت (صحوٌ.. يمطرُ) استدعاءً دلاليًّا للبيت التالي أجابه
أبو تمّام (.. والصحوُ غيثٌ مضمرُ).
لقد مثّل الفضاء الصوتي طابعًا
مؤثّرًا ومميّزًا في السياق الإبداعي القديم الذي كان الشعر فيه "غناءً لا
كتابة، وكان الصوت في هذا الشعر بمثابة النسَم الحيّ، كان موسيقى جسدية، كان
الكلام وشيئًا آخر يتجاوز الكلام؛ فهو ينقل الكلام وما يعجز عن نقله الكلام،
وبخاصةٍ المكتوب"[9]،
أما سياق أبي تمّام أو السياق الإبداعي الجديد فقد كان يحمل طابَع الكتابة
والتفكُّر والابتداع الذي فرضه التحوُّل الحضاري والاتساع الثقافي في العصر
العباسي.
ولا شك أن الهيمنة الشعورية والفكرية
على كافة وحدات العمل الشعري، والتي تضمنها الذهنية الكتابية للشاعر المحدث وأبي
تمّام بالتحديد؛ مكّنته من الانتباه إلى أن الوحدة الإيقاعية قد خسرت جزءًا من
فاعليّتها، وذلك لأن القصيدة في ظلّ التحوُّل للكتابية "قد فقدت الفضاء
الصوتي الرحب، واتجه تركيزها صوب المعنى، ولكيلا يهدر المعنى طاقتها الشعرية ركّزت
على الجناسات والطباقات فعوّضت هذا الفراغ"[10]،
فأشكال البديع عند أبي تمّام كانت ذات قيمة إيقاعية، ولكنها لم تكن كذلك فحسب؛ لأن
هذه القيمة الإيقاعية مكتسبة من هيمنة المعنى أو المضمون الشعري على الوحدة
الإيقاعية واتصالها الشديد به.
لقد كانت رؤية أبي تمّام وتناوله
لفنون وأشكال البديع امتدادًا لرؤيته الشعرية التي ترى الشعر عملًا فنيًّا فكريًّا
ينشُد الغرابة والخصوصية؛ إذ أن هذه الفنون والأشكال التعبيرية لم تكن تقتصر عند
أبي تمّام على التزيين والزخرفة الشكلية أو على القيمة الإيقاعية فحسب، ولكن كان
يدفعه إلى هذه الأشكال والفنون دافعٌ نفساني جماليّ[11]؛
فهي كالجسد الذي تجري داخله الروح الفكرية والشعورية، وهذا يعبّر عن تأمُّلٍ ووعيٍ
عميق بسحر الإيقاع اللغوي المكثّف، وعن القيمة الدلالية لهذا الإيقاع، كما يعبّر
عن اتصال شديد للذات الشاعرة بالموضوع؛ ممّا دعا أحد النقّاد للتفريق بين أبي
تمّام وشعراء البديع قائلًا أن "أبا تمّام لم يكن بديعيًّا، وإن توسّل ما قد
يتوسّله البديعيون؛ ذاك لأن البديعيّين كانوا يلمسون الحقائق الخارجية"[12].
وقد كانت كثرة الجناسات والطباقات في
شعر أبي تمّام تعبيرًا عن الهاجس اللغوي الذي يُعدّ ركنًا من أركان رؤيته الشعرية،
ويمثّل أبرز ملامح تجربته؛ فقد نتج عن هذا الهاجس ظاهرة جناسيّة هي "التوسُّع
في الاشتقاق من الأسماء والأعلام"[13]،
يقول أبو تمّام[14]:
متى
أنت عن ذُهليّة الحيّ ذاهلُ وقلبُكَ منها
مدّةَ الدهر آهلُ
ويقول
أبو تمّام أيضًا[15]:
سيف الإمام الذي سمّتهُ همّتهُ لمّا تخرَّم أهلَ الكفر مخترِما
إن الخليفةَ لمّا صال كنتَ له خليفةَ الموتِ فيمن جار أو ظلما
قرّت بقُرّان عينُ الدين وانشترت بالأشترين عيونُ الشرك فاصطلما
وهذه
الظاهرة كثيرة الورود في شعره؛ فهو يشتقّ من أسماء المواضع وأسماء من يحتاج إلى
ذكره تجنيسًا يكمل به المعنى، ويضيف إليه إيقاعًا دلاليًّا أو قوّةً إقناعية، فالتجنيس
عند أبي تمّام ليس مجرّد حلية لفظية[16]؛
وهذا يعود إلى ذلك الهاجس اللغوي الذي يسبغه أبو تمّام على كافّة وحدات القصيدة،
لا سيّما الوحدة الإيقاعية.
وإذا ذهبنا إلى أعمق من ذلك أدركنا أن
أبا تمّام على وعي تامّ بأن "التسمية تقييدٌ للمجهول، فعلٌ خلّاق؛ إذ أن ما
يدخل إلى اللغة من أسماء يُنمّي المعرفة بالكون، ويبسط سلطان الإدراك عليه"[17]؛
ويبدو أنه بناءً على هذا الوعي عنده كان التجنيس المشتقّ من تلك الأسماء يمثّل
تحفيزًا وتثويرًا ضدّ الرتابة التي يفرضها تداول الاسم؛ فهو يحرّر الاسم قليلًا من
سلطة المعرفة والإدراك الثابتة، ويبثّ فيه الحركيّة الشعريّة المدهشة؛ ممّا يدلّ
أيضًا على الذخيرة اللغوية الهائلة التي يمتلكها أبو تمّام، وذلك لأن "هذه
الآلية التي تتطلّب معرفةً واسعةً باللغة قد تبدو عزيزة الواقع صعبة التصيّد، ولكن
من المؤكد أن أبا تمّام كان يصيب منها ما شاء كلما صوَّب إليها همته"[18].
وفي مثال آخر يؤكّد أن القيمة الصوتية
للتجنيس بشكل عام ليست منفصلةً عن القيمة الدلالية، يقول أبو تمّام[19]:
ثنتان
كالقمرين حُفّ سناهما بكواعبٍ مثل
الدُّمى أترابِ
من
كلّ ريمٍ لم ترُم سوءًا ولم تخلط صِبا
أيّامها بتصابي
يذكر ابن المعتز في كتابه طبقات
الشعراء[20] موقفًا
لأبي تمّام يكشف جزءًا من شخصيّته التي تبدو من خلال ذلك الموقف ميّالة للعبث
واللهو، بيْد أن أبا تمّام كان شديد التعفُّف في شعره، وفي الأبيات السابقة يكشف
لنا أبو تمّام أنه على وعي بالقرب الصوتي بين لفظتي (ريم- ترُم) و (صبا- تصابي)،
ولكن إيراد هذا التجنيس لم يكن حلية صوتية خالية من الروح الدلالية المرتبطة
بتعبير أبي تمّام عن شخصيّته أنها ميّالة للوقار والعفاف في تصوير الجمال الأنثوي؛
فهذه هي الصورة المثالية التي أراد أن يُخلَّد بها وأن نعرفه بها، وهي صورة تعبّر
عن اتصال شعر أبي تمّام بذاته وانطلاقه منها.
والأهم من ذلك أن التجنيس مرتبط
برؤيته للغة الشعرية التي لا ترى التجنيس تقاربًا صوتيًّا فحسب، ولكن تراه توليدًا
دلاليًّا معبّرًا يكشف عن فكر أبي تمّام وتأمله الشديد في عملية إنتاج المعنى
وإضفاء خصوصيّته عليه، إذ أن هذه اللغة الشعرية ترى في التجنيس تثويرًا للعاديّ
وتحفيزًا للموروث والمشاع من المعاني أيضًا، كما هو الحال في وصف الأنثى الجميلة
بأنها (ريم) في التراث الشعري، فهو يعرض هذا المعنى في شكل لغوي مستفزّ لليقظة
والتفكُّر عند تلقّيه؛ ذلك لأنه يعطي هذا المعنى حراكًا جماليًّا ضدّ الرتابة
والبلادة في التلقّي، وذلك من خلال الاشتقاق الصوتي الذي يتفاعل مع الاستدعاء
الدلالي العميق في لفظة (ريم) التي قد توحي بمرام السوء؛ بيْد أن أبا تمّام ينفيه
عن الجميلة (لم ترُم سوءًا)، كما في لفظة (صِبا) التي قد تستدعي وتوحي بالتصابي
الذي لا يحسن بالجميلة عند أبي تمّام؛ ولذلك هو ينفيه عنها أيضًا.
وفي مثال آخر يجمع فيه بين التجنيس
والاستعارة مما يكشف عن هاجس التكثيف الدلالي والصوتي الذي يجعل من تجربة أبي
تمّام تجربةً جماليّة فريدة وخاصّة، يروي الصولي موقفًا لأبي تمّام مع جارية ظريفة
حاولت مشاكسته وإغراءه بأمر من مولاها، فقال أبو تمّام[21]:
أبرقتِ
لي إذ ليس لي برقُ فتزحزحي ما عندنا عشقُ
ما
كنتُ أفسقُ والشبابُ أخي أفحينَ شِبتُ
يجوز لي الفسقُ؟
لي
همّةٌ عن ذاك تردعني ومركَّبٌ[22]
ما خانه عِرقُ
يصوّر أبو تمّام هذه المحاولة
الظريفة تصويرًا خياليًّا يعكس تمثُّل ذاته الدائم في شعره، كما يعكس القدرة
والتحكُّم الفنّي العالي بإنتاج المعنى وإضفاء الخصوصية عليه؛ فهو يعرض تلك
المحاولة في صورة البرق الجميل، ولكنه برق خُلَّب لا يجد مخايلةً وتجاوبًا شعوريًّا
منه، ليس لأن المحاولة في ذاتها عبثيّة وتخلو من المشاعر الحقيقيّة كما يعكسها
الإبراق اللحظي الخادع فحسب (أبرقتِ)، ولكن لنزوعه الذاتي إلى الوقار والعفاف
والحِلم، ولأنه ليس لديه الوقت الكافي للهو والعبث المتبادل (إذ ليس لي برقُ)؛ فهو
يراعي السنّ والهمّة التي تليق به، و(مركَّبًا ما خانه عِرقُ) الذي هو أصله
ومنبته.
وهذا يشكّل تكاملًا دلاليًّا عميقًا
بين الأبيات، تمثَّل في استعارة الإبراق الخاطف لتصوير المشاعر الزائفة اللحظية في
البيت الأول، والتي لا تغري الأصل والمنبت الحقيقي الذي يستحضره أبو تمّام في
البيت الثالث؛ ليؤكّد ذلك على معرفته اللغوية الواسعة، وتأمله العميق للإيحاء
المعجمي وتوظيفه مجازيًّا، كما يؤكد أن الاستعارة عنده ليست شكلًا خاليًا من
القيمة الدلالية المستمدة من الوعي الذاتي بالموضوع، ومن النسق الجمالي والفكري
الخاصّ في الأبيات؛ وهو ما كانت تتميّز به استعاراته بشكل عام، كما أن أبا تمّام
لا يستحضر العُرف الاستعاري القديم إلا ليفارقه وينفرد عنه؛ لأنه يؤمن بأنه يجب
على الشاعر أن يخلق استعاراته ولغته الشعرية الخاصة، التي تعبّر عن تجاربه ومواقفه
تعبيرًا فنيًّا خاصًّا، ولا يرث ويقتصر على استعارات لا تعبّر عنه.
[1] يُنظر: حركية الصراع في القصيدة العباسية، ناظم السويداوي، دار
العراب- دمشق، 2012، ص 127-128.
[2] الثابت والمتحوّل، أدونيس، دار العودة- بيروت، ط 2، 1979، ج 2، ص
117.
[3] المرجع نفسه، ص 117.
[4] إشارة لقوله: وطولُ مقام المرء في الحيّ مخلقٌ.. فاغترب
تتجدَدِ، شرح ديوان أبي تمّام، التبريزي، تقديم وفهرسة راجي الأسمر، دار الكتاب العربي - بيروت، ط 2، 1994، ج 1، ص 246.
[5] المرجع نفسه، ص 332.
[6] إشارة لقوله: خُلق أطلّ من الربيع كأنه خُلق الإمام..، المرجع نفسه، ص 334.
[7] الثابت والمتحول، أدونيس، ج 2، ص 115.
[8] المرجع نفسه، ج 2، ص 116.
[9] الشعرية العربية، أدونيس، دار الآداب - بيروت، 1998، ص 5.
[10] نار الحماسة، دراسة في تلقي أبي تمَّام الجمالي، خالد الحربي، دار أدب للنشر والتوزيع، 1444ه، ص 183.
[11] يُنظر: الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية،
محمد العمري، أفريقيا الشرق-المغرب، 2001، ص 189.
[12] أبو تمّام فنُّه ونفسيته من خلال شعره، إيليا حاوي، دار الثقافة-
بيروت، ص 116.
[13] الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، محمد
العمري، ص 214.
[14] شرح ديوان أبي تمّام، التبريزي، ج 2، ص 53.
[15] شرح ديوان أبي تمّام، التبريزي، ج 2، ص 82.
[16] الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، محمد
العمري، ص 217.
[17] اللغة الشعر في ديوان أبي تمّام، حسين الواد، دار الغرب الإسلامي،
ط 1، ص 59.
[18] الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية والممارسة الشعرية، محمد
العمري، ص 215.
[19] شرح ديوان أبي تمّام، التبريزي، ج 1، ص 51.
[20] يُنظر: طبقات الشعراء، لابن المعتز، تح عبدالستار أحمد فراج، دار
المعارف- القاهرة، ط 3، ص 282-283.
[21] أخبار أبي تمّام، للصولي، تح خليل محمود عساكر ومحمد عبده ونظير الإسلام الهندي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 210.
[22] "والمركَّب: الأصلُ والمنبت؛ تقول فلانٌ كريمُ
المركَّب" لسان العرب، ابن منظور، دار صادر - بيروت، ط 3، 1414ه، ج 1، ص 432-433.
تعليقات
إرسال تعليق