المشاركات

لا تحاكيهما الذاكرة

صورة
الصوتان كأنّهما نهران ينسابان برفقٍ في وادٍ عميق، يلتقيان، يتشاركان الصفاء والعذوبة، حيث الألحان بالحبّ والحزن في تناغمٍ ساحر، أمّا اللغة هناك، فكأنها هي هي ما كانت عليه، مجرّد نغمٍ شاردة تغازل المكنونَ في الأشياء، ويمتزج اليأس بالأمل في كلّ نغمة.   كأنَّهما تشرَّبا ريقًا واحدة، كأنَّ الريق ريق غزالة.. لم تشرب إلّا من نبعٍ واحد، نبعٍ غامضٍ، في مكانٍ وزمانٍ غامضين، لكن صوت فيروز بُحَّ بتشهّي البرق الخاطف على صفحة ذاك النبع، ونازك بُحَّ صوتها بماء وردٍ مقتولٍ بالنبع ذاته.  لفيروز صوتها العميق، روحانيّ مُفارق، كأنه مقتبسٌ من ريشة ملَكٍ تتهاوى، أنعم من نسيم الفجر، شجيٌّ توَّاق، يُعزّي الكلمات بمعنى الحلم المحاصَر بذاته، حلم اقتباض الصمت.  لنازك صوتها العريق، مائيٌّ شاجن، يكاد يتبخَّر براءةً وشفافيّة، مع ذلك.. ستغترب وأنت تُؤوِّل قسَماته، يُغوي الكلمات وما راوحَها من سكتات بدفء عناقٍ طيفيّ.   شِفاهيّان كلاهما، لم يأخذهما المكتوب قط؛ ولذا تكاد ألّا تُحاكيهما الذاكرة، مهما كرّرت الاستذكار، فالآن وهنا سرُّهما، كل صوتٍ سواهما قد أخذه المكتوب؛ ولذا يبدو كأنَّه مقروءٌ...

رحابة الإنسانيّة والإيمان

صورة
صورة الكتاب، دار الشروق - القاهرة، الطبعة الأولى 2012.   رحابة الإنسانية والإيمان بين إنسانيّة الإنسان وماديّة الأشياء يأخذنا د عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في هذا الكتاب إلى خِضمّ معركة الفِكر الكونيّة، فاحصًا ومناقشًا وناقدًا أبرز الرؤى التي اصطفّت في كلا طرفي المعركة: 1.    الطرف المتمركز حول الإنسان؛ وهو الطرف الذي يؤمن بتجاوز الإنسان وتعاليه على الحدود الطبيعية الماديّة. 2.    والطرف المتمركز حول الطبيعة؛ وهو الطرف الذي يؤمن بواحديّة النظام الطبيعي وهيمنته على كل الأشياء، لا سيّما الإنسان الذي يصبح شيئًا ككل الأشياء داخل هذا النظام، بلا قيمةٍ فارقة، وبلا هدف وغاية ما ورائيّة من وجوده. في الباب الأول من الكتاب ينقل لنا المسيري -رحمه الله- الصراع من داخل الفكر الغربي الذي ينقسم إلى الإنسانيّة الهيومانيّة التي دافعت عن مركزيّة الإنسان متمثّلةً في رؤى فيكو وكانط، وفي نقد مدرسة فرانكفورت، وهذا القسم ينزلق ويتهاوى ليصبح وجهًا آخر للقسم الثاني من الفكر الغربي؛ وهو قسم الداروينية الاجتماعية والعدميّة، الذي يعكس لنا تعميم نظرية تشارلز داروين في تطور الكائن...

أبو تمَّام وذاتيّة الوعي بالأشياء

صورة
  صورة تمثال أبي تمَّام في الموصل- العراق يمكننا إيجاز التحوُّل العميق في مسار الشعرية العربية بين الشعر المحدث وما قبله في ملاحظة عامة؛ هي أن الشعر المحدث هو نتاج رؤية الذات وتفاعلها مع الآخر الذي يمثّله هنا الإنسان والواقع المَعيش، أما ما قبله فعلى العكس؛ إذ كان الشعر نتاج رؤية الجماعة وانعكاسًا للآخر في الغالب، وهذا الفرق هو الذي أتاح للشعر المحدث مساحةً لا محدودة تجاه الغموض وكسر المألوف والفرادة، كانت هذه المساحة تكاد تكون معدومة في الشعر ما قبل المحدث؛ إذ كان مفروضًا عليه الالتزام بالواجب الاجتماعي والمحاكاة الواقعية، وهذا مما يفرض الوضوح والقرب من المألوف والتشاركية في اللغة الشعرية. إن الذات الشاعرة في العصر العباسي تقدّم نفسها بأنها الوعي الجديد لمتغيّرات الحياة، والآخر هو قضية ومعاناة لهذه الذات الواعية؛ فرؤية الشاعر في العصر العباسي تتفاعل مع الآخر بوصفه التجربة التي تتعايش معها الذات وتسعى إلى تغييرها أو تفعيلها شعريًّا، وهذا يعني أن تكون الذات في مركز التحكُّم والسيطرة داخل العمل الشعري، وهكذا يحقّق الشاعر وجوده الخاصّ ومكانته، ولا ينفي هذا أن تتأثر الذات أو تتشكّل م...