لا تحاكيهما الذاكرة

الصوتان كأنّهما نهران ينسابان برفقٍ في وادٍ عميق، يلتقيان، يتشاركان الصفاء والعذوبة، حيث الألحان بالحبّ والحزن في تناغمٍ ساحر، أمّا اللغة هناك، فكأنها هي هي ما كانت عليه، مجرّد نغمٍ شاردة تغازل المكنونَ في الأشياء، ويمتزج اليأس بالأمل في كلّ نغمة. كأنَّهما تشرَّبا ريقًا واحدة، كأنَّ الريق ريق غزالة.. لم تشرب إلّا من نبعٍ واحد، نبعٍ غامضٍ، في مكانٍ وزمانٍ غامضين، لكن صوت فيروز بُحَّ بتشهّي البرق الخاطف على صفحة ذاك النبع، ونازك بُحَّ صوتها بماء وردٍ مقتولٍ بالنبع ذاته. لفيروز صوتها العميق، روحانيّ مُفارق، كأنه مقتبسٌ من ريشة ملَكٍ تتهاوى، أنعم من نسيم الفجر، شجيٌّ توَّاق، يُعزّي الكلمات بمعنى الحلم المحاصَر بذاته، حلم اقتباض الصمت. لنازك صوتها العريق، مائيٌّ شاجن، يكاد يتبخَّر براءةً وشفافيّة، مع ذلك.. ستغترب وأنت تُؤوِّل قسَماته، يُغوي الكلمات وما راوحَها من سكتات بدفء عناقٍ طيفيّ. شِفاهيّان كلاهما، لم يأخذهما المكتوب قط؛ ولذا تكاد ألّا تُحاكيهما الذاكرة، مهما كرّرت الاستذكار، فالآن وهنا سرُّهما، كل صوتٍ سواهما قد أخذه المكتوب؛ ولذا يبدو كأنَّه مقروءٌ...